الجمعة، 30 مارس 2012

قصة كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام بدون تحضير لتغيب عنها عشرات من السنين !!


 على طريقة تعلم الانكليزية خلال ثلاثة أيام بدون معلم .. مع العلم أنني أحضرت الكتاب وتفرغت لدراسته ثلاثة أيام فلم أتعلم !! وهكذا انتهت صلاحية الكتاب فرميته .. وبعدها بعام ظهرت نسخة مطورة وهي تعلم الانكليزية خلال عشرة أيام وبدون معلم !! أيضا بذلت جهدي ومضى الوقت المتاح وانتهت صلاحية الكتاب ولم أتعلم !! والآن انتظر الطبعة الجديدة على أمل أن تكون تعلم الإنكليزية خلال ثلاثين عام .. راجية أن تكون تلك النسخة مع معلم !!

طبعا ليس هذا موضوعي الذي أريد التحدث عنه .. لكنها الطريقة الحديثة في التقديم !! ألآ ترون مثلا في قناة الجزيرة وفي برنامج كالاتجاه المعاكس كيف يشرح المذيع ساعة ماذا سيأت في البرنامج ثم يذهب فاصلا ويعود ليبدأ الحلقة !!

في خريف عام 1981 أو ربما يكون شتاء وقد يكون في الصيف ... لكن الأمر الأكيد أن ذلك لم يحدث في الربيع !! لان الربيع غاب عن بلادي أربعين سنة ونيف .. !! وجاء الان كثيفا لكنه محزنا !! جاء مخاضه أليما طويلا لم تنبت أزهاره الا عندما رويت بالدماء الطاهرة ..
في ذلك العام كنا في زيارة لجدة والدتي وهي إمرأة رائعة الخلق وجهها يشع نورا وهي حفيدة الشيخ بدر الدين الحسني محدث دمشق وهي ايضا حماة جدي الشيخ علي الطنطاوي و كان دائم المدح لمناقبها وشخصها و كان يقول هل رأيتم شخصا يحب حماته !! ثم يجيب فورا أنا أحب حماتي و قد كان محقا ... فهي تستحق المحبة ..
اذكر ذلك اليوم تماما .. حيث غادر أغلب أفراد عائلتنا دمشق وبقيت أمي صامدة ترفض أن تغادر واذكر كيف سألتها جدتها : يا بيانة (وكانت تدلعها ببيانة بدل بيان لمحبتها لها ) هل ستتركين دمشق أنت ايضا كما فعل الجميع ؟ وتجيبها أمي أبدا أبدا أنا لن أرحل مهما يحصل !!! وكانه غاب عنها أن تقول إن شاء الله
وبعد هذه الزيارة بأيام قليلة صحونا على خبر مفجع وغريب لا يصدق في ذلك الزمان .. خبر اغتيال خالتي بنان !! سمعنا الخبر ولم نصدق !! بل سهرت أمي الليل و هي تدعو لها بالشفاء من أثر الرصاصات !! لكن هيهات فإن أمر الله قد حصل .. وحصلت الوفاة وخلال ساعات كان بيتنا مليئا بالمعزين .. بل جاءت سيارة الوزيرة نجاح العطار إلى باب بيتنا تقلّ أختها لتؤدي واجب العزاء !! في قصة غريبة من نوعها !! حيث زوج خالتي هو عصام العطار بينما أخته تعمل وزيرة لدى النظام !! الذي قتل ......
وفي خضم العزاء يتصل بنا جدي يطلب منا المجيء الى مكة وبالحاح .. قائلا يا بيان اذا وصلوا الى اختك في ألمانيا فلن يعجزهم الوصول اليك و أنت في سوريا !!

 على هامش القصة: أذكر لكم أنه قبل مقتل خالتي بنان بأربعة أشهر كانت قد رُزقت بحفيدة من ابنتها هادية .. وكانت جدتها -أي جدة خالتي (التي تكلمت عنها في قصة أمس) لا تزال على قيد الحياة !! فخاف الجميع عليها عندما قالوا أصبح لدينا في العائلة من ينادي : -يا ستي كلمي ستك-!! ولم يخطر ببال أحد ساعتها أن التي ستموت هي الجدة الصغيرة التي تبلغ من 38بينما ستعيش الجدة الكبيرة حتى تبلغ 98من العمر!! فسبح...ان الله ..

أعود الى قصتي .. عندما اتصل علينا جدي يطلب منا المجئ الى مكة .. كان علينا المغادرة خلال ثلاثة أيام .. هي أيام العزاء وكان بيتنا لا يخلو من الناس لاليلا ولا نهارا .. وحركة دؤوبة لتجهيز البيت للاخلاء .. فالنساء يدخلن الى غرفة المؤونة (التي يوضع بها اصناف الطعام على عادة اهل الشام )ويفرغن كل شيء .. ويفرغن الثلاجات .. ويجمعن الأثاث .. وأمي تطلب منّا ان نتحضر للسفر!! وتطلب من أختي أن تذهب معي الى مدرستي لسحب الاوراق !! وانا صرت أرتجيها ان تتركني شهرا فقط بعده ينتهي العام ..(وكنت في الصف الثاني الثانوي) فلا يذهب مني تعب سنة .. إلا انها ترفض وتقول سنغادر الآن !!
ذهبت الى مدرستي ودّعت رفيقاتي وبكينا معا ..حيث لم نصدق اننا سنفترق .. وفي طريقي لسحب الاوراق تمر أمامي معلمة الاشتركية وهي من أسوأ المعلمات تظهر شماتتها بي وبموت خالتي وتفرح لخبر تركي للبلاد وخاصة انني قبل شهر واحد كنت قد أثرت على صديقة لي فارتدت الحجاب وتقول سنرتاح منك ومن تأثيرك الرجعي على الطالبات وقد كانت اظهرت حنقها وغضبها عندما تحجبت صديقتي الحبيبة منى وطلبت مني ان ابتعد عنها حتى لا أحولها الى قبيحة رجعية (هبلة) على حد قولها .. وكذلك أتت ابنة الوزير _علا جربوع _ التي لا أزال اذكر اسمها .. فاظهرت حقدها وأبدت سعادتها لرحيلي ... فدعوت عليها من قلبي ... ولن تصدقوا انه بعد شهر واحد مات والدها الذي كانت تفتخر به و بمركزه .. الى جهنم وبئس المصير .....
حزمت أمتعتي نعم .. لكنني كنت أخال أنني في حلم .... أو أنني سأذهب في اجازة قصيرة أعود بعدها إلى غرفتي و أغراضي .. بصراحة لم يستوعب عقلي الصغير وقتها ولم يرشدني الى جمع حاجاتي!! لم أودع غرفتي كما يجب ولا سريري ولا خطر ببالي أن أجمع ذكرياتي!! تركت صوري ورسائلي وتركت كل تذكاراتي!!
غطينا كل الأثاث بعد ان جمعناه بوسط الغرفة بالأغطية و الشراشف .. وألقيت نظرة!! أحسست أننا سنترك البيت لاشباح ستعيش فيه فترة ... فقد غلب عليه اللون الابيض وغاب كل لون آخر تحت الاغطية البيضاء .... وغابت صفحة من حياتي طويت تحت ذلك الغطاء ...
ومضينا في رحلة نحو المجهول .. لا ندري أي أرض سنحل بها وأي سماء .. وهل يا دمشق الحبيبة سيكون لنا لقاء ... و غابت دمشق خلف البقاع ونظري الى الخلف لا أدري ماذا ينتظرني في الامام ..... اتجهنا أولا نحو عمّان ........................... !!

على هامش القصة: أذكر لكم أن جدة أمي--التي كنا في زيارتها وأكدت لها أمي أنها ستبقى في دمشق لن تغادرها-- لم تعلم بمقتل خالتي حيث خاف الجميع أن يخبرها رفقا بسنها وصحتها ... وعندما علمت بسفرنا المفاجئ وكيف أننا لم نودعها .. حارت في أمرنا وظلت الأفكار تراودها .. وظلت تسأل كل من يمر ببيتها .. لماذا سافرت بيان ؟ ألم تقل أنها لن تبرح الشام!! كيف تمضي هكذا في ثلاثة أيام!! ولم تعلم جدتنا المسكينة بالحادثة الا بعد بعد مرور سنة وأكثر..... عندما سمعت حديثا لجدي في الرائي وهو يبكي ويتأثر......... ويقول ابنتي بنان التي اغتالتها يد الظلم و العدوان...

وصلنا إلى عمّان وكانت تسكن هناك خالتي الكبيرة عنان .. جلسنا بها أيضا ثلاثة أيام .. وكأنه كُتب علينا أن نحضر في كل بلد أيام جديدة للعزاء .. حيث كان بيت خالتي أيضا يعج بالنساء رغم انتهاء مدة العزاء !!
ثم غادرنا إلى مكة ... حيث وجدنا جدتي في حالة صعبة .. تبكي بألم وحرقة .. كلماتها تبعث الشفقة .. لاتصدق أنهم قد يقتلون أنثى .. !! وبطريقة اغتيال .. وكأن الموت قتلا مقصور على الرجال !!
وكان جدي يراعيها يحنو عليها ويداريها رغم أنني احسست أن حزنه أكبر .. وخاصة أنه يكتمه في قلبه فلا يعبر ..
ورغم ان أيام العزاء قد انصرمت فقد مضت ستة أيام .. إلا أن فلول الناس كانت تأتي وتملأ المكان .. يستقبلهم جدي بابتسامة وترحاب وكأنه ليس في مُصاب .. يمازحهم بنكاته ويلقي عليهم النوادر و الأشعار .. يُضحكهم حتى تعلو أصوات ضحكاتهم وكأنهم في عرس أو بازار !! وكانت جدتي في طرف الدار تبكي وتشتكي من أفعال جدي وتقول :هل سيصدق الناس حزنك!! أم يظنون أنك لا تبالي .. فيقول جدي: يا عائدة إنني لا أبالي بما يظنه الناس .. هل تظنين ويظن غيرك أنني فاقد الاحساس!! لكن ظلمة الليل كانت تكشف ما يخفيه صخب النهار .. كانت أصوات بكاء جدي ونشيج آلامه تملأ الدار !! ........ لا أدري هل كان ينام أم لا ينام .. يصحو وعيناه منفختان وبياضهما بلون الرمان!!
لله درك يا جدي ما أروعك من إنسان .. تشاركنا السعادة والحزن يملأ داخلك .. تضحك و الدموع تفيض في مقلك !! لا تشكو إلا لخالقك .. لله درك ما أفطنك !!

للانسان دوما نظرة قاصرة .. وهو يحب العاجلة .. وأنا وجدت من قصة قتل خالتي أن المصائب قد تأت بخير في الدنيا قبل الآخرة ...
وفي قصة موسى والخضر عبر زاخرة .. واذا كان المثل يقول مصائب قوم عند قوم فوائد .. فانني وجدت أن بعض مصائبنا قد تأت بخير لنا نحن أنفسنا ..!! لكننا قد لا نعي ما بين السطور حتى يمضي الزمان ويتضح المجهول !!
فرحيلنا إلى مكة كان به خيرا كثيرا .. أول الخير أنه بعد مغادرتنا بشهر أو شهرين حدثت قصة خلع حجاب المحجبات في شوارع البلاد .. من قبل البنات المظليات .. حتى انني اذكر قصة اشتهرت في الاوساط .. أن سيدة فاضلة كبيرة عندما جاءت المظلية تخلع حجابها رجتها بقولها: يا ابنتي أرجوك لا تفعلي فان خلع حجابي كبير على نفسي وهو يمثّل لي كما لو خلعت أنت كل ملابسك!! فما كان من تلك الملعونة إلا أن خلعت كل ملابسها وهي تضحك و تقول: ها انظري .. لا قيمة لاي شيء في نظري!! ثم خلعت حجاب المرأة المسكينة .. التي لم تصدق ما تراه!! وأي نوع من البشر هذه لاتعرف الحياء !!
ومع اسفي لكل الاخوات اللواتي عانين وعايّن هذه القصة .. إلا أنني حمدت الله أننا كنا قد رحلنا!!
أما الخير الآخر الذي أصابنا بقدومنا إلى مكة فهو قربنا من جدي وأيضا قربنا من الحرم ..
وأما قربنا من جدي فهي قصة طويلة كقصص ألف ليلة وليلة ... قصة تحتمل صفحات وصفحات تعلمنا خلالها ثقافات و معلومات وتعلمنا الخشوع في الصلاة .. وتعلمنا كثرة الدعاء .. بل لن تصدقوا لقد تعلمنا منه طبخ بعض الاكلات وصناعة انواع من الحلويات .. !!
الجلوس معه لا يملّ ابدا .. فلديه إلمام بكل علم .. فبالاضافة للفقه والتفسير والادب و الشعر والتاريخ يعرف في علم الفلك ويعرف بالموسيقى و الاصوات وهو فوق هذا بارع ببعض الرياضات وخاصة حمل الاثقال .. فلديه من كل الاوزان ..
وكان لزاما لكل من يعيش معه في نفس الدار أن يتعلم .. شاء أم أبى ..لكن بطريقة مرغّبة ... فأي كلمة أو جملة أو شعر يمر معنا خلال الكلام .. علينا فورا أن نوثقه باحضار الكتاب .. حيث كان دوما يقول ليس العلم بالحفظ في الصدور وإنما بمعرفة أين وكيف تراجع المسألة ... !! ولا زال زوجي الى اليوم يذكر أفضاله بأن علمه كيف يبحث في أصعب الكتب ويستخرج جواب كل مسألة فقهية .. مهما كانت صعبة ومستعصية !!
كنا نحمل لسان العرب وهو أثقل منّا .. فلا يجب أن يغيب معنى كلمة عنّا .. وعلينا أن نجتهد لتعلم لغتنا !!
وهكذا إذا خطر ببالنا أن نسأله في أي مسألة يعيدنا الى الكتاب ..كي نتبحر ونستفيد في بحثنا عن الجواب ....
إن العيش في منزل علي الطنطاوي قمة في الروعة ثقافة وعلم وتسلية ونكتة ... ووجه باسم ... وأب حنون ..
وكان لمنزله القريب من الحرم ايضا روعة أخرى... وفرصة .. فكنّا لا نضيّع صلاة فيه .. و خاصة حين نفكر في قيمة الركعة بميزان الحسنات .. فمن الغباء الاستغناء عن مئة ألف .. و الصلاة في البيت بينما الحرم على بُعد خطوة ..
لكن جدتي كانت تقف لنا بالمرصاد إذ كيف نذهب وحدنا ونحن بنات !! وكيف نذهب في صلاة الفجر !! فكنّا نتسحّب ونهرب .. ثم نعود لنجدها تشتكي لجدي وهو يضحك يجاملها بنعم دون أن يعترض فتقع مشادة لطيفة نكون نحن فيها السبب !!!!

أما أسوأ كابوس عاينته في مكة فهو عندما فكرت أمي أن تضعنا في المدرسة أنا وأختي مؤمنة .. لا أدري كيف دبّرت تسجيلنا ونحن في آخر السنة ..ولا أدري كيف عادلوا موادنا التي تختلف كل الاختلاف.. فنصف المواد في المملكة دين بينما لدينا اشتراكية قومية وفتوة وأيضا رياضيات في القسم الأدبي... وكنا أولا لا نعي ما ينتظرنا .. حيث اتضح انه علينا إن نذهب بالباص!! ولكي يكتمل العذاب اتضح أن سائق الباص يسكن في نفس البناء!! أي أنه سيأخذنا في البداية .. يلف بنا شوارع و هضاب وجبال مكة لا يترك زاوية ... وكذلك في رحلة العودة يرجعنا في النهاية .. وأجمل ما في الموضوع أن الباصات غير مكيفة وهي قديمة مهترأة أجزم انها تعمل في الحج .. رائعة في إحداث ارتجاج في المخ !!
بعد يومين اثنين لم تحتمل أختي مؤمنة فبكت لأمي و اشتكت –وهي آخر العنقود(آه وآه من آخر العنقود الذي يجب لرأيه أن يسود والذي صلاحياته بلا حدود)ّ!!!! -مادخل أحمد منصور- فقبلت أمي أن تترك المدرسة على أساس أن تعود إلى دمشق بعد ذلك لتقدم إمتحان الشهادة الاعدادية(المتوسطة) هناك..
وبقيت وحدي في العذاب ......... بكيت وشكيت همي.... لكن لم تسمع لي أمي!!
ذهبنا واشترينا المريول !! وكنت ساعتها أتساءل .. لماذا المريول !! هل سأذهب إلى مدرسة أم إلى مطبخ!! وعباية سوداء لم أعرف كيف ألبسها فلم أعرف وجهها من خلفها!! لا يوجد اكمام ولا يوجد أزار(اين منها من عباءات هذه الايام) ثم قالوا لي يجب أن تغطي وجهك !! وانا لم أتعود على الغطاء فكرت كثيرا أن أستعير من جدي عصاه ... !!
ذهبت إلى المدرسة وأنا احتار بالتنورة الطويلة إذ كيف سأقفز فيها فوق الجدار كعادتي في الشام عندما أتأخر .. حيث كنت دائمة التأخير وكانت دوما الحصة الاولى رياضيات و انا أكره الرياضيات والمعلمة تكرهني.. ودوما باختي عابدة تقارنني.... التي كانت ممتازة و مجتهدة بينما انا مشاغبة بلا فائدة!! وكانت تعرف انني اهرب و اتسحب فتبعث بي إلى الناظرة كي تتأكد أنها رأتني تطلب أن أحضر ورقة تسمح لي بالدخول .. و هكذا صرت آتي لأجد الناظرة وبيدها الورقة قد كتبتها لي قبل أن اقول!! وفي آخر الدوام تأتي اليّ لتقول: أروى اشربي اليوم كازوز(مشروب غازي) أقول: لماذا؟ تجيب: حتى تصيري تنهضمي!
أين هذه الذكريات و أين المشاغبات اتذكر كيف كنا نضع كيسا من النايلون على المدفأة لتهرب من الرائحة المعلمة !! كل شي رااح
تتعرف عليّ البنات .. ايش اسمك : أقول: أروى ..........يقلن: أوروا (بالضم) !! أقول :لالا أروى نبقى فترة .......بلا جدوى ..........فاقرر أن أتعود على اسمي الجديد .. أسألهن : أين علقوا برنامج الفحص؟؟ فتنتابهن حالة من الضحك!! برنامج!! ليش تلفزيون يعني !!........... وفحص؟؟ ليش دكتور يا حبيبتي!!
أجد نفسي في موقف لا أحسد عليه .. لكنني أبقى أحاول أن أنخرط بينهن .. أكسب ودهنّ .. أجاملهن.. وأحكي لهن.... عسى أن أعوض بهنّ عن صديقاتي ... فأحكي لهن قليلا عن حياتي ...فما إن أقول: فاء جدو اليوم (أي أفاق بالعامية الشامية) حتى أجد ضحكاتهن قد تعالت وهن يرددن ..... فاء هاهاها ليه مو قاف ولا جيم !!
ثم تقول البنات غدا الثلوث!! قلت ماذا؟؟ قلن غدا الثلوث؟؟ ثم اتضح أن يوم الثلاثاء له اسم دلع ... وآتي في اليوم الذي يليه لأجدهن يقلن غدا الربوع !! فقلت في نفسي اذن هكذا يسمون هنا أيام الاسبوع ....فلأستبق الامر وأحكي مثلهن كي اتقرب منهن ... فقلت غدا الخموس!! ثم لا أدري ما الذي حصل وكأن بركان قد انفجر!! فقد تعالت الضحكات حتى حضرت المعلمات!!
لا أدري لماذا سخرن مني .. ولماذا يصح حسب آراء الكوفيين و البصريين التلوت و الربوع !! بينما لا يصح الخموس !! وأين أجد هذا في أي قاموس !!

- ترجمة لبعض المصطلحات التي وردت:
برنامج الفحص- أي :جدول الاختبار
فاء : صحي : أفاق

أعود الى تتمة قصتي:
يوم الخموس اتضح انه يوم عطلة .. يا لها من فرحة .. ولم يكن كذلك في الشام !! فرحت كثيرا لانني سأنام .. لكنني حلمت بالباص الاصفر كثيرا مما عكر صفو المنام .....
كنت أحس أنني في بلد أجنبي وعليّ أن اتعلم لغته حتى أحسن التفاهم حيث كانت البنات تقول لي كلمات تحتاج إلى تراجم .. حيث تقول لي إحداهن ضعي الكراريس في الماصة !! ولم أسمع في دمشق قبل ذلك .. لفظ كرّاسة !! فنحن نقول دفتر ... وهذه وإن كانت تُفهم وبالامكان البحث عن معناها في المعجم !! لكن الماصة هذه لم أعرف مصدر وجودها للان وبعد ثلاثين سنة وكيف ظهرت في الكلام........ وهل هي مشتقة من الفعل أم من المصدر وهل هي اسم آلة .. أم اسم مكان!! وحاولت أن أفهم من اشارات البنات .. حتى لا أعرّض نفسي للضحكات !! فاتضح أن الماصة هي الطاولة .. رغم أن الكلمة لا تمت لها بصلة !!
وكم حمدت ربي عندما علمت أن اسم الكرسي هو نفسه كرسي.. بدون ضم أو فتح أو كسرٍِ !!

وبقيت أحاول التقرب من البنات وخاصة أنهن إلتففن حولي .. يتعرفن على أصلي وفصلي .. فكنت أحدثهنّّ بكلام وأحكي (وأنا اجتماعية بطبعي): جاء فلان لعنّا .. ثم أكملت القصة ..وقدمنا له القهوة .. لكنني وجدت الطالبات استهجنّ وامتعضن وقاطعنني قائلات : ايش !! يلعنكم وتقدمون له القهوة والله لو احنا جا لعنّا كنا نلعن عيلتهم كلها !! وجلست ساعة اقول لالا مو جاء لعنا وإنما جاء لعنا .. حتى فهمن المعنى !! وأنا فهمت أنه يجب أن اقول جاء عندنا .. و الحمدلله أن لهذه الكلمة أصل قد أفهمه !!
ثم يًقرع الجرس فتفرح البنات ويقلن هيا إلى الفسحة!! ففرحت ....ظنا مني أننا سنذهب في رحلة.... ثم اتضح أن ما يسمى في الشام فرصة (أي وقت الراحة بين الحصص) يسمى لديهم فسحة وهي تعني لنا الذهاب في نزهة!!
وفي طريقي إلى الفصل(وهذه فهمتها وحدي ولله الحمد) .. وهو ما يسمى في الشام –الصف- وجدت طالبة فسألتها : هل أنت بالحادي عشر متلي ولا بكالوريا !! فنظرت لي وكانني آتية من كوكب آخر .. لكنها تمالكت نفسها ثم قالت: ايش الحادي عشر ذا .. فانتبهت .. إلى أنني قد خرجت عن نطاق اللغة المحلية إلى لغتي الاصلية !! وعصرت ذاكرتي فورا واهتديت .. قلت قصدي هل انت في الثاني الثانوي ولا البكالوريا!! لكن النظرة المندهشة في عينها لا تزال هي !! قالت: ايش تتريقين يعني تسألي في مدرسة ثانوية إذا انا في البكالوريا!! احنا في جامعة يعني!! أنا في ثالثة ثانوي!! قلت لها نعم طيب الثالث ثانوي يسمى بكالوريا !! قالت : من جدك انت!! قلت في نفسي وما ادراها أنني أشبه جدي !! !!!
(وللتوضيح .. فقد ظنت الطالبة أن بكالوريا هي كالباكالوريوس .. فاعتقدت انها دراسة جامعية) وعرفت بعد ذلك أنها تسمى لديهم التوجيهية ...
تمالكت نفسي ومضيت إلى فصلي حزينة حزينة لا أحد يدرك مقدار غربتي وبؤسي وحزني أبكي على يومي وأتحسر على أمسي ......
جاءت بعض الطالبات وجدنني حزينة فكنت أحكي لهن القصة .. عندما فهمت عليي إحداهن ففرحت بها وقلت لهن : عائشة ما شاء الله حولا فهمت عليي !! واذ .. تنقلب البنات .. من محبات إلى مهاجمات .. يقلن عيب عليك !!و أنا استغرب !! وأقول ما الذي حصل؟ يقلن :كيف هيك تسبيها لعائشة !! قلت : و الله _ما قلت شي شبكن انتو!! قلن : بل قلت سمعناك جميعا .. فأجيب : طيب شو قلت؟ قلن : قلت لها حولا(أي حولها باللهجة الشامية) ووالله ما هي بحولا حتى انظري إلى عيونها !!!!. قلت : لا حول ولا قوة الا بالله .. قد انتحر اذا بقيت بهذه المدرسة .. واخرجت من شنطتي باكيت المحارم أمسح وجهي ... لأجد طالبة منهن بقربي .. تقول ممكن منديل .. وكان قد طفح بي الكيل _وقلت بنفسي وماذا تريد بمنديلي الذي سأتحجب به واخرج_ فقلت : لا ... فقالت يا بخيلة !! وذهبت تخبر عني البنات وبانني بخيلة لم اعطيها المنديلا ............. آآآآه لن يصبر عليكن سوى نيلسون منديلا!!
وعندما ذهبت إلى البيت .. عندها فقط علمت أن المنديل(كلينكس) يعني –محرمة- (باللغة الشامية) ونحن نسمي المنديل في الشام الغطاء الاسود الذي يوضع على الرأس .. فهل كانت تريدني أن أخرج حاسرة !! ..وهكذا رجعت من معركتي مع التوافق مع البنات خاسرة !!

 (ملاحظة : هذه القصة حدثت قبل ثلاثين سنة أي قبل ظهور الفضائيات وفهم اللهجات المحلية لكل بلد عربية .. كما أنها كانت في مكة و أهل مكة لهجتهم صعبة و تختلف عن لهجة اهل جدة)

في مكة كانت تنتظرني أكبر عقبة .. و التي من المستحيل أن أتخطاها و أنجح .. من المستحيل بوجودها أن أتم دراستي وأن أتخرّج ..
حيث أنني كنت في سوريا أدرس اللغة الفرنسية .. وإذ بي بين يوم وليلة .. أجد نفسي في مواجهة مع اللغة الانكليزية !! و الأدهى أنها دراسة للغة بمستوى طالبة ثانوية !! و أنا التي في حباتي لم أدرسها .. ولا أعرف شيئا عنها حتى الضمائر العادية ..
جلست أشتكي لجدي همي علّه يسرّي عني .. وخاصة أنه قد يفهمني بما أنه يتحدث الفرنسية ولم يتعلم في حياته الانكليزية .. فإذ به يقول لي لا تهتمي!! هذه لغة سهلة ليست كالفرنسية التي لها قواعد وتطبيق .. لغة ليس بها عراقة كلماتها سرقة وتجميع!!
وأنا يمكنني أن أساعدك ببعض كلمات .. أجبت وهل تعرف؟؟ قال طبعا .. قلت: هات ..
أصغيت بكل سمعي .. وقد حضّرت نفسي .. لدرس قد يساعدني .. فوجدته يقول: اذا حضر أحدهم وتريدين الترحيب فيه .. فكلمة الترحاب هي : ويكلم (الويل لكم) Welcome
وأما إذا أردت أن تطلبي من أحد شيئا فعليك أن تقولي: إبليس Please!!
وإذا أردت أن تسألي عن سعر سلعة فتقولين: همج !! How much
وكنت قد حضّرت ورقتي وقلمي .. لأجد جدي يمازحني .... على عادته .. فأردت أن أتم المزحة .. فقلت له وكذلك في اللغة الانكليزية لو أخطأ شخص .. فكلمة الإعتذار هي سوري!! لماذا تقع كل الاخطاء علينا .. فيقول جدي : ممتاز ..هاقد تعلمت منك كلمة أخرى أضيفها الى كلماتي الثلاث!!
وفي اليوم التالي ذهبت الى الحصة .. وكلي خشية .. أن تطلب مني المعلمة القراءة!!
وعندما طلبت حاولت الاعتذار قلت je ne sais pas
لكنها لم تفهم !! وأنا لم أفهم سوى أنه لا مجال ... لكنني اذكر عندما قرأت : كومبوزيسيون
composition!! ضحكت الطالبات بجنون!! وتمالكت نفسها المعلمة وهي تصحح لي قائلة : كومبوزشن!! قلت لها أين الشين ؟ تركتني في حيرتي ..وهي تشير ان أكمل قراءتي .. لكن ما إن قرأت I know وقلت أي كنو !! حتى صارت المعلمة تقول Enough وأنا لا أفهم ماذا تقصد بالأنف!! وكل ما اعرفه هو Sifni... لكن ضحكات البنات أوقفتني وأقنعتني بالسكوت ..
جلست اتذكر حصة اللغة الفرنسية في سورية وكيف كنت وصديقاتي ننتقل الى صف بعيد .. وذلك من أجل ان عددنا قليل فكنا نجتمع في كل الحصص مع بنات اللغة الانكليزية فاذا جاءت حصة اللغة انقسمنا وذهبنا الى صف جديد .. وكان أن ذكرت لنا إحدى البنات أن خالها يسكن قرب فصلنا واشارت الى البناء!! فقفزت الى فكرنا طريقة للشغب تضيع الوقت وتمكننا من اللعب ... وذلك بان تجعل خالها يفتح المسجلة على أي أغنية -وحبذا لو عبد الحليم-  في وقت حصتنا وبصوت عال .... فكانت المعلمة تستغرب وتشتم وتقول -سوفاج - ولماذا يحصل هذا دوما في حصتكم رغم أنني اعطي دروسا هنا دوما يا لهذه المصادفات !!
وتسألني البنات في مكة بماذا تنادون المعلمات؟ فقلت: نقول آنسة .. فيسألن: حتى المتزوجات؟ أقول نعم .. عدا معلمة اللغة الفرنسية نناديها مدام !! فتقول واحدة: ولماذا مدام بالذات من أخوات كان !!!!!!! وأقول في نفسي ضليعة بالنحو أنت .. حفظك الرحمن!!
طبعا تنتهي قصتي يوم امتحان اللغة الانكليزية حيث أدرت الورقة بكل الاتجاهات وحسب دوران عقارب الساعة .. وعكس الطواف ولم أفهم أي سؤال فكتبت لهم أساسيات الفرنسية ITER Ferb و Ferb AVOR (فيرب ايتر وفيرب آفوار) وكتبت بعض لمحات من قصة البؤساء لفيكتور هيجو التي كنا ندرسها بالشام وبالذات قصة كوزيت وجان فالجان ... علهم يضيفونني الى قائمة البؤساء فانجح بمعجزة أو أرسب بكرامة .. فما قدمت ورقتي بيضاء ........
طبعا بعد هذه القصة تركت الدراسة سبع سنين حتى تعافيت من معاناة المدرسة الثانوية الاولى في مكة ........... واكملت دراستي في جدة ولكن في الثانوية الثامنة .. وبهذا تنتهي قصة الذكريات

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله بك ابكيتني حزنا و ضحكا و رجعتيني لايام المدرسة في الشام و الشغب...

    ردحذف